في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتحوّل فيه الكتب إلى ملفات رقمية تُستهلك بلمسة واحدة، يبقى لفن تجليد الكتب يدويًا سحرٌ مختلف، يشبه الطقوس القديمة التي تمنح الورق معنى وروحًا. وفي مشهد ثقافي يعيد الاعتبار للحرف اليدوية الأصيلة، فتحت مدرسة الخط والزخرفة – سوكو أبوابها أمام حرفة التجليد والخياطة اليدوية، ليس فقط كمهارة فنية، بل كممارسة ثقافية تستحق أن تُروى وتُعاش
ضمن برنامجها المتخصص في إحياء الفنون الإسلامية والحرف المهددة بالاندثار، نظّمت المدرسة ورشتين احترافيتين تحت إشراف خبرات دولية، جمعت بين الحرفة والإبداع.
في الورشة الأولى، قدّمت الحرفية المتخصصة إينا تجربة غنية في فن تجليد الكتب التقليدي، حيث اصطف الحضور حول الطاولات ليخوضوا رحلة تبدأ من الورقة وتنتهي بكتاب متكامل يحمل لمسة شخصية. بخيوط دقيقة، وغراء طبيعي، وأقمشة ذات طابع فني، تعلّم المشاركون كيف تتحوّل الكراسة إلى كيان متين يُغلف بشغف وذوق.

على الجهة الأخرى، جاء الفنان التركي فرقان يولداش ليقدّم ورشة “صناعة الكتب الصغيرة”، التي استعرض فيها خطوات دقيقة في تصميم وتجليد دفاتر مصغّرة، مستلهمًا من تقنيات استخدمت منذ قرون في المدارس الإسلامية والمكتبات العثمانية. فرقان، بخبرته وخفة روحه، جعل من الورشة مساحة للتجريب والتأمل، حيث يتحوّل العمل اليدوي إلى لغة بصرية تحكي قصصًا من التاريخ والهوية.


ما ميّز الورشتين هو الدمج بين المهارة الحرفية والتذوق الفني، حيث لم تكن الغاية فقط إنتاج كتاب جميل، بل فهم قيمة الصنعة، وأهمية البطء، والتفاصيل، والاحترام الذي تستحقه المادة بين يدي الحرفي.
تُجسّد هذه المبادرات توجه مدرسة سوكو في الحفاظ على الحرف اليدوية كجزء لا يتجزأ من الثقافة البصرية المحلية والعربية، وتأكيدًا على أن الإبداع الحقيقي لا يولد فقط من الفكرة، بل من اليد التي تُنفّذ، والوجدان الذي يحتفي بالجميل والمتقن.
في النهاية، خرج المشاركون من الورش وهم لا يحملون كتابًا فنيًا فحسب، بل تجربة عميقة تروي قصة الحرفة وتمنحها حياة جديدة. تجليد الكتب في سوكو لم يكن استعادة لطقسٍ قديم، بل إعلانٌ بأن الفن الحقيقي يبدأ من الورقة، ويمتد في تفاصيل ما تصنعه اليد بحب.